فصل: فصل (في الكلام على نسخ الآية):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {ما كان لنبيٍّ أن تكون له أسرى حتى يُثْخِنَ في الأرض}
روى مسلم في أفراده من حديث عمر بن الخطاب قال: لما هزم الله المشركين يوم بدر، وقُتل منهم سبعون وأُسِرَ منهم سبعون، استشار النبي صلى الله عليه وسلم أبا بكر وعمر وعليًا، فقال أبو بكر: يا نبي الله هؤلاء بنو العم والعشيرة والاخوان، وإني أرى أن تأخذ منهم الفدية، فيكون ما أخذنا منهم قوَّةً لنا على الكفار، وعسى أن يهديهم الله فيكونوا لنا عضدًا.
فقال رسول الله: «ما ترى يا ابن الخطاب»؟ قلت: والله ما أرى ما رأى أبو بكر، ولكن أرى أن تمكنني من فلان، قريبٌ لعمر، فأضرب عنقه، وتمكن عليًا من عقيل فيضرب عنقه، وتمكن حمزة من أخيه فلان فيضرِبَ عنقه، حتى يعلم الله أنه ليس في قلوبنا هوادة للمشركين، هؤلاء صناديدهم وأئمتهم وقادتهم.
فَهِويَ رسول الله ما قال أبو بكر، ولم يهوَ ما قلت، فأخذ منهم الفداء.
فلما كان من الغد، غدوت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإذا هو قاعد وأبو بكر الصديق وهما يبكيان.
فقلت: يا رسول الله أخبرني، ماذا يبكيك أنت وصاحبك؟ فإن وجدت بكاءً بكَيت، وإن لم أجد بكاءً تباكيت.
فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «أبكي للذي عرض عليَّ أصحابُك من الفداء.
لقد عُرض عليَّ عذابكم أدنى من هذه الشجرة»
لشجرة قريبة، فأنزل الله: {ما كان لنبي أن يكون له أسرى} إلى قوله: {عظيم}.
وروي عن ابن عمر قال: لما أشار عمر بقتلهم، وفاداهم رسول الله صلى الله عليه وسلم، أنزل الله تعالى: {ما كان لنبي} إلى قوله: {حلالًا طيبًا} فلقي النبي صلى الله عليه وسلم عمر، فقال: «كاد يصيبنا في خلافك بلاء» فأما الأسرى، فهو جمع أسير، وقد ذكرناه في [البقرة: 85].
والجمهور قرءوا {أن يكون} بالياء، لأن الاسراء مذكَّرون.
وقرأ أبو عمرو: {أن تكون}، قال أبو علي: أنَّثَ على لفظ الأسرى، لأن الأسرى وإن كان المراد به التذكير والرجال فهو مؤنَّث اللفظ.
والأكثرون قرءوا: {أسرى} وكذلك {لمن في أيديكم من الأسرى}.
قرأ أبو جعفر والمفضل: {أُسارى} في الموضعين، ووافقهما أبو عمرو، وأبان في الثاني.
قال الزجاج: والإثخان في كل شيء: قُوَّة الشيء وشِدَّته.
يقال: قد أثخنه المرض: إذا اشتدت قُوَّته عليه.
والمعنى: حتى يبالغ في قتل أعدائه.
ويجوز أن يكون المعنى: حتى يتمكن في الأرض.
قال المفسرون: معنى الآية: ما كان لنبي أن يحبس كافرًا قدر عليه للفداء أو المن قبل الإثخان في الارض.
وكانت غزاة بدر أول قتال قاتله رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولم يكن قد أثخن في الأرض بعد.
{تريدون عرض الدنيا} وهو المال، وكان أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قد فادوا يومئذ بأربعة آلاف أربعة آلاف.
وفي قوله: {والله يريد الآخرة} قولان:
أحدهما: يريد لكم الجنة، قاله ابن عباس.
والثاني: يريد العمل بما يوجب ثواب الآخرة، ذكره الماوردي.

.فصل [في الكلام على نسخ الآية]:

وقد روي عن ابن عباس، ومجاهد في آخرين: أن هذه الآية منسوخة بقوله: {فإما منًّا بعدُ وإِمَّا فداءً} [محمد: 4]، وليس للنسخ وجه، لأن غزاة بدر كانت وفي المسلمين قِلَّةٌ، فلما كثروا واشتدَّ سلطانُهم، نزلت الآية الأخرى، ويبيِّن هذا قولُه: {حتى يثخن في الأرض}. اهـ.

.قال القرطبي:

{مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرَى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ} فيه خمس مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {أسرى} جمع أسِير؛ مثلُ قتيل وقتلى وجَريح وجرحى.
ويُقال في جمع أسير أيضًا: أُسَارَى (بضم الهمزة) وأَسارَى (بفتحها) وليست بالعالية.
وكانوا يَشُدّون الأسير بالقِدّ وهو الإسار؛ فسُمِّيَ كل أخِيذ وإن لم يُؤسر أسيرًا.
قال الأعشى:
وقَيَّدنِي الشّعر في بيتِهِ ** كما قَيّد الآسِراتُ الحِمارا

وقد مضى هذا في سورة البقرة.
وقال أبو عمرو بن العلاء: الأسرى هم غير الموثَقين عندما يؤخذون، والأسارى هم الموثقون رَبْطًا.
وحكى أبو حاتم أنه سمع هذا من العرب.
الثانية هذه الآية نزلت يوم بدر، عتابًا من الله عزّ وجلّ لأصحاب نبيّه صلى الله عليه وسلم.
والمعنى: ما كان ينبغي لكم أن تفعلوا هذا الفعل الذي أوجب أن يكون للنبيّ صلى الله عليه وسلم أسرى قبل الإثخان.
ولهم هذا الإخبارُ بقوله: {تُرِيدُونَ عَرَضَ الدنيا}.
والنبيّ صلى الله عليه وسلم لم يأمر باستبقاء الرجال وقت الحرب، ولا أراد قطّ عرض الدنيا، وإنما فعله جمهور مباشري الحرب؛ فالتوبيخ والعتاب إنما كان متوجهًا بسبب من أشار على النبيّ صلى الله عليه وسلم بأخذ الفِدية.
هذا قول أكثر المفسرين، وهو الذي لا يصح غيره.
وجاء ذكر النبي صلى الله عليه وسلم في الآية حين لم يَنْه عنه حين رآه من العَرِيش وإذ كره سعد بن معاذ وعمر بن الخطاب وعبد الله بن رواحة، ولكنه عليه السَّلام شغَله بَغْتُ الأمر ونزولُ النصر فترك النّهي عن الاستبقاء؛ ولذلك بكى هو وأبو بكر حين نزلت الآيات. والله أعلم.
روى مسلم من حديث عمر بن الخطاب، وقد تقدّم أوّله في آل عمران وهذا تمامه.
قال أبو زُمَيل: قال ابن عباس: فلما أسروا الأُسارى قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر وعمر: «ما ترون في هؤلاء الأسارى»؟ فقال أبو بكر: يا رسول الله، هم بنو العمّ والعشِيرة، أرى أن تأخذ منهم فِديةً، فتكون لنا قوّة على الكفار، فعسى الله أن يهدِيهم للإسلام.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترى يا ابن الخطاب»؟ قلت: لا والله يا رسول الله، ما أرى الذي رأى أبو بكر، ولكني أرى أن تمكِّنا فنضرب أعناقهم، فَتُمَكِّن عَلِيًّا من عَقِيل فيضِربَ عنقه، وتمكِّنِّي من فلان (نَسِيبًا لعمر) فأضرب عنقه؛ فإن هؤلاء أئمة الكفر وصناديدُها.
فَهِويَ رسول الله صلى الله عليه وسلم ما قال أبو بكر ولم يَهْوَ ما قلتُ؛ فلما كان من الغد جئت فإذا رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكرٍ قاعِدَيْن يبكيان؛ فقلت: يا رسول الله، أخبرني من أي شيء تبكي أنت وصاحبُك؛ فإن وجدتُ بكاء بكيتُ، وإن لم أجد بكاء تباكيت لبكائكما.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «أَبْكي للذي عَرض عليّ أصحابُك من أخذهم الفداء لقد عُرض عليّ عذابُهم أدنى من هذه الشجرةِ» (شجرةٌ قريبةٌ كانت من نبيّ الله صلى الله عليه وسلم) وأنزل الله عزّ وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} إلى قوله تعالى: {فَكُلُواْ مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلاَلًا طَيِّبًا} فأحّل الله الغنيمة لهم.
وروى يزيد بن هارون قال: أخبرنا يحيى قال حدّثنا أبو معاوية عن الأعمش عن عمرو بن مُرة عن أبي عبيدة عن عبد الله قال: لما كان يوم بدر جيء بالأسارى وفيهم العباس، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما ترون في هؤلاء الأسارى» فقال أبو بكر: يا رسول الله قومُك وأهلُك، استبقهم لعلّ الله أن يتوب عليهم.
وقال عمر: كذّبوك وأخرجوك وقاتلوك، قدّمهم فاضرب أعناقهم.
وقال عبد الله بن رواحة: انظر واديًا كثير الحطب فأضرمه عليهم.
فقال العباس وهو يسمع: قطعتَ رحِمك.
قال: فدخل رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يردّ عليهم شيئًا.
فقال أُناس: يأخذ بقول أبي بكر رضي الله عنه.
وقال أُناس: يأخذ بقول عمر.
وقال أُناس: يأخذ بقول عبد الله بن رواحة.
فخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله ليُلين قلوب رجال فيه حتى تكون ألين من اللبن ويُشدّد قلوب رجال فيه حتى تكون أشدّ من الحجارة.
مثلك يا أبا بكر مثل إبراهيم قال: {فَمَن تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَمَنْ عَصَانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ} [إبراهيم: 36] ومثلك يا أبا بكر مثل عيسى إذ قال: {إِن تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبَادُكَ وَإِن تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنتَ العزيز الحكيم} [المائدة: 118].
ومثلك يا عمر كمثل نوح عليه السَّلام إذ قال: {رَّبِّ لاَ تَذَرْ عَلَى الأرض مِنَ الكافرين دَيَّارًا} [نوح: 26].
ومثلك يا عمر مثل موسى عليه السَّلام إذ قال: {رَبَّنَا اطمس على أَمْوَالِهِمْ واشدد على قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حتى يَرَوُاْ العذاب الأليم} [يونس: 88] أنتم عالة فلا ينفلتنّ أحد إلاَّ بفداء أو ضربة عنق»
.
فقال عبد الله: ألاَّ سُهيل بن بيضاء فإني سمعته يذكر الإسلام.
فسكت رسول الله صلى الله عليه وسلم.
قال: فما رأيتني أخوف أن تقع عليّ الحجارة من السماء منِّي في ذلك اليوم.
فأنزل الله عزّ وجلّ: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} إلى آخر الآيتين في رواية فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن كاد ليصيبنا في خلاف ابن الخطاب عذاب ولو نزل عذاب ما أفلت إلاَّ عُمر» وروى أبو داود عن عمر قال: لما كان يوم بدر وأخذ يعني رسول الله صلى الله عليه وسلم الفداء، أنزل الله عزّ وجل: {مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أسرى حتى يُثْخِنَ فِي الأرض} إلى قوله: {لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ} من الفداء {عَذَابٌ عَظِيمٌ}.
ثم أحل الغنائم.
وذكر القُشيرِيّ أن سعد بن معاذ قال: يا رسول الله، إنه أوّل وقعة لنا مع المشركين فكان الإثخان أحبّ إليّ.
والإثخان: كثرة القتل؛ عن مجاهد وغيره.
أي يبالغ في قتل المشركين.
تقول العرب: أثخن فلان في هذا الأمر أي بالغ.
وقال بعضهم: حتى يُقهِر ويَقْتُل.
وأنشد المفضّل:
تصلّي الضحى ما دهرها بتعبّد ** وقد أثخنت فرعون في كفره كفرا

وقيل: {حتى يُثْخِنَ} يتمكّن.
وقيل: الإثخان القوّة والشدّة.
فأعلم الله سبحانه وتعالى أن قتل الأسرى الذين فُودُوا ببدر كان أولى من فدائهم.
وقال ابن عباس رضي الله عنه: كان هذا يوم بدر والمسلمون يومئذ قليل، فلما كفروا واشتدّ سلطانهم أنزل الله عزّ وجلّ بعد هذا في الأسارى: {فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً} [محمد: 4] على ما يأتي بيانه في سورة القتال إن شاء الله تعالى.
وقد قيل: إنما عُوتبوا لأن قضية بدر كانت عظيمة الموقع والتصريف في صناديد قريش وأشرافهم وساداتهم وأموالهم بالقتل والاسترقاق والتملّك.
وذلك كله عظيم الموقع، فكان حقهم أن ينتظروا الوَحْيَ ولا يستعجلوا؛ فلما استعجلوا ولم ينتظروا توجّه عليهم ما توجّه. والله أعلم.
الثالثة أسند الطبرِيّ وغيره أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال للناس: «إن شئتم أخذتم فداء الأسارى ويُقتل منكم في الحرب سبعون على عددهم وإن شئتم قُتلوا وسَلِمتم».
فقالوا: نأخذ الفداء ويستشهد منا سبعون. وذكر عبد بن حُميد بسنده أن جبريل عليه السَّلام نزل على النبيّ صلى الله عليه وسلم بتخيير الناس هكذا وقد مضى في آل عمران القول في هذا.
وقال عَبيدة السَّلْمَانِيّ: طلبوا الخِيرتين كلتيهما؛ فقتل منهم يوم أُحُد سبعون.
وينشأ هنا إشكال وهي:
الرابعة وهو أن يُقال: إذا كان التخيير فكيف وقع التوبيخ بقوله: {لَمَسَّكُمْ}.